يعد محمد بن إسماعيل البخاري أهم علماء الحديث عند أهل السنة والجماعة، وهو صاحب كتاب الجامع الصحيح الذي يعرف بأنه أصح الكتب عند أهل السنة بعد كتاب الله
نسبه ونشأته
هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بردزبة الجعفي أبو عبد الله البخاري الاوزبكي من مدينة بخارى في إقليم خراسان (أوزبكستان الحالية) [1]، وهو الحافظ إمام أهل الحديث في زمانه، والمقتدى به في أوانه، والمقدّم على سائر أضرابه وأقرانه، وكتابه الجامع الصحيح أجمع العلماء على قبوله وصحة ما فيه.
ولد الإمام البخاري في ليلة الجمعة الثالث عشر من شوال سنة أربع وتسعين ومائة 194 هـ، ومات أبوه وهو صغير، فنشأ في حجر أمه، فتوجّه إلى حفظ الحديث وهو في المكتب، وقرأ الكتب المشهورة وهو ابن ست عشرة سنة، حتى قيل إنه كان يحفظ وهو صبي سبعين ألف حديثاً سندًا ومتنًا. وقد كان أصيب بصره وهو صغير، فرأت أمه في منامها إبراهيم الخليل، فقال: يا هذه، قد ردّ الله على ولدك بصره بكثرة دعائك - أو قال: بكائك - فأصبح بصيرًا.
شيوخه وتلاميذه
وكان أكثر من تأثر به البخاري وتعلم منه هو علي بن المديني
روى عنه خلائق وأمم كثيرون. وقد روى الخطيب البغدادي عن الفربري أنه قال: سمع الصحيح من البخاري معي نحوٌ من سبعين ألفًا لم يبقَ منهم أحد غيري.
وقد روى البخاري من طريق الفربري كما هي رواية الناس اليوم
من طريقه وحماد بن شاكر ومحمد بن بن المثنى بن دينار
وإبراهيم بن معقل
وطاهر بن مخلّد
وآخر من حدث عنه أبو طلحة منصور بن محمد بن علي البردي النسفي، وقد توفي النسفي في سنة تسع وعشرين وثلاثمائة، ووثقه الأمير أبو نصر بن ماكولا.
وممن روى عن البخاري مسلم في غير الصحيح
وكان الإمام مسلم بن الحجاج يتلمذ له ويعظمه
وروى عنه الترمذي في جامعه
والنسائي في سننه في قول بعضهم
وقد دخل بغداد ثمان مرات، وكان يجتمع في كل منها بالإمام أحمد بن حنبل فيحثه الإمام أحمد بن حنبل على المقام ببغداد ويلومه على الإقامة بخراسان.
ملامح شخصيته
تمتع الإمام البخاري بصفات عذبة وشمائل كريمة، لا تتوافر إلا في العلماء المخلصين، وهذه الصفات هي التي صنعت الإمام البخاري:
الإقبال على العلم: قام البخاري بأداء فريضة الحج وعمره ثماني عشرة سنة فأقام بمكة يطلب بها الحديث ثم رحل بعد ذلك إلى سائر مشايخ الحديث في البلدان التي أمكنته الرُحلة إليها وكتب عن أكثر من ألف شيخ.
الجد في تحصيل العلم: وقد كان البخاري يستيقظ في الليلة الواحدة من نومه فيوقد السراج ويكتب الفائدة تمر بخاطرة ثم يطفئ سراجه ثم يقوم مرة أخرى وأخرى حتى كان يتعدد منه ذلك قريبا من عشرين مرة.
من كرم البخاري وسماحته
قال محمد بن أبي حاتم الرازي عن الإمام البخاري: كانت له قطعة أرض يؤجرها كل سنة بسبع مائة درهم، فكان ذلك المؤجر ربما حمل منها إلى أبي عبد الله قثّاةً أو قثّاتين؛ لأن أبا عبد الله كان معجبًا بالقثّاء النضيج، وكان يؤثره على البطيخ أحيانًا، فكان يهب للرجل مائة درهم كل سنة لحمله القثّاء إليه أحيانًا.
قال: وسمعته يقول: كنت أستغل كل شهر خمس مائة درهم، فأنفقت كل ذلك في طلب العلم. فقلت: كم بين من ينفق على هذا الوجه وبين من كان خلوًا من المال فجمع وكسب بالعلم حتى اجتمع له! فقال أبو عبد الله: ما عند الله خيرٌ وأبقى.
كان يتصدق بالكثير، يأخذ بيده صاحب الحاجة من أهل الحديث فيناوله ما بين العشرين إلى الثلاثين، وأقل وأكثر، من غير أن يشعر بذلك أحد، وكان لا يفارقه كيسه
ورعه
قال محمد بن إسماعيل البخاري: ما وضعت في كتاب الصحيح حديثًا إلا اغتسلت قبل ذلك وصليت ركعتين.
قال محمد بن أبي حاتم الرازي: ركبنا يومًا إلى الرمي، فجعلنا نرمي، وأصاب سهم أبي عبد الله البخاري وتدَ القنطرة الذي على نهر ورادة، فانشق الوتد، فلما رآه أبو عبد الله نزل عن دابته، فأخرج السهم من الوتد وترك الرمي، وقال لنا: ارجعوا، ورجعنا معه إلى المنزل، فقال لي: يا أبا جعفر، لي إليك حاجة مهمة، قالها وهو يتنفس الصعداء، وقال لمن معنا: اذهبوا مع أبي جعفر حتى تعينوه على ما سألته، فقلت: أية حاجةٍ هي؟ قال لي: تضمن قضاءها؟ قلت: نعم، على الرأس والعين. قال: ينبغي أن تصير إلى صاحب القنطرة فتقول له: إنا قد أخللنا بالوتد، فنحب أن تأذن لنا في إقامة بدله، أو تأخذ ثمنه وتجعلنا في حلٍّ مما كان منا. وكان صاحب القنطرة حميد بن الأخضر الفربري، فقال لي: أبلغ أبا عبد الله السلام، وقل له: أنت في حلٍّ مما كان منك، وجميع ملكي لك الفداء، وإن قلت نفسي أكون قد كذبت، غير أني لم أكن أحب أن تحتشمني في وتدٍ أو في ملكي. فأبلغته رسالته، فتهلّل وجهه واستنار، وأظهر سرورًا، وقرأ في ذلك اليوم على الغرباء نحوًا من خمسمائة حديث، وتصدق بثلاث مائة درهم.
قال ابن أبي حاتم: ورأيته استلقى على قفاه يومًا ونحن بفربر في تصنيفه كتاب التفسير، وأتعب نفسه ذلك اليوم في كثرة إخراج الحديث، فقلت له: إني أراك تقول: إني ما أثبت شيءًا بغير علمٍ قط منذ عقلت، فما الفائدة في الاستلقاء؟ قال: أتعبنا أنفسَنا اليوم، وهذا ثغرٌ من الثغور خشيت أن يحدث حدثٌ من أمر العدو، فأحببت أن استريح، فإن فاجأنا العدو كان بنا حراك.
وضيّفه بعض أصحابه في بستانٍ له وضيّفنا معه، فلما جلسنا أعجب صاحب البستان بستانه، وذلك أنه كان عمل مجالس فيه وأجرى الماء في أنهاره، فقال له: يا أبا عبد الله، كيف ترى؟ فقال: هذه الحياة الدنيا.
وكان الحسين بن محمد السمرقندي يقول: كان محمد بن إسماعيل مخصوصًا بثلاث خصالٍ مع ما كان فيه من الخصال المحمودة، كان قليل الكلام، وكان لا يطمع فيما عند الناس، وكان لا يشتغل بأمور الناس، كل شغله كان في العلم.
قوة حفظه وذاكرته
وهب الله الإمام البخاري منذ طفولته قوة في الذكاء والحفظ من خلال ذاكرة قوية تحدى بها أقوى الاختبارات التي تعرض لها في عدة مواقف.
يقول البخاري: أُلهمت حفظ الحديث وأنا في الكتّاب، وكان عمره حينذاك عشر سنين. ولما بلغ البخاري ست عشرة سنة كان قد حفظ كتب ابن المبارك ووكيع.
وقال محمد بن أبي حاتم الورّاق: سمعت حاشد بن إسماعيل وآخر يقولان: كان أبو عبد الله البخاري يختلف معنا إلى مشايخ البصرة وهو غلام، فلا يكتب، حتى أتى على ذلك أيام، فكنا نقول له: إنك تختلف معنا ولا تكتب، فما تصنع؟ فقال لنا يومًا بعد ستة عشر يومًا: إنكما قد أكثرتما عليّ وألححتما، فاعرضا عليّ ما كتبتما، فأخرجنا إليه ما كان عندنا فزاد على خمسة عشر ألف حديث، فقرأها كلها عن ظهر قلب، حتى جعلنا نحكم كتبنا من حفظه، ثم قال: أترون أني اختلف هدرًا وأضيّع أيامي؟! فعرفنا أنه لا يتقدمه أحد.
وقال ابن عدي: حدثني محمد بن أحمد القومسي، سمعت محمد بن خميرويه، سمعت محمد بن إسماعيل يقول: أحفظ مائة ألف حديث صحيح، وأحفظ مائتي ألف حديث غير صحيح.
قال: وسمعت أبا بكر الكلواذاني يقول: ما رأيت مثل محمد بن إسماعيل، كان يأخذ الكتاب من العلماء، فيطّلع عليه اطّلاعة، فيحفظ عامة أطراف الأحاديث بمرة.
طلبه للحديث
كان الإمام البخاري يقول قبل موته: كتبت عن ألفٍ وثمانين رجلًا، ليس فيهم إلا صاحب حديث، كانوا يقولون: الإيمان قولٌ وعمل، يزيد وينقص.
رحلته في طلب العلم: ونبدأها من مسقط رأسه بخارى، فقد سمع بها من الجعفي المسندي، ومحمد بن سلام البيكندي، وجماعة ليسوا من كبار شيوخه. ثم رحل إلى بلخ، وسمع هناك من مكبن بن إبراهيم، وهو من كبار شيوخه. وسمع بمرو من عبدان بن عثمان، وعلي بن الحسن بن شقيق، وصدقة بن الفضل. وسمع بنيسابور من يحيى بن يحيى وجماعة من العلماء. وسمع بالرّيّ من إبراهيم بن موسى.
ثم رحل إلى مكة وسمع هناك من أبي عبد الرحمن المقرئ، وخلّاد بن يحيى، وحسان بن حسان البصري، وأبي الوليد أحمد بن محمد الأزرقي، والحميدي.
وسمع بالمدينة من عبد العزيز الأويسي، وأيوب بن سليمان بن بلال، وإسماعيل بن أبي أويس.
وأكمل رحلته في العالم الإسلامي آنذاك، فذهب إلى مصر، ثم إلى الشام، وسمع من أبي اليمان، وآدم بن أبي إياس، وعلي بن عياش، وبشر بن شعيب، وأبي المغيرة عبد القدوس، وأحمد بن خالد الوهب، ي ومحمد بن يوسف الفريابي، وأبي مسهر، وآخرين.
تفوقه على أقرانه في الحديث
ظهر نبوغ البخاري مبكرًا، فتفوق على أقرانه، وصاروا يتتلمذون على يديه، ويحتفون به في البلدان.
فقد رُويَ أن أهل المعرفة من البصريين يعدّون خلفه في طلب الحديث وهو شاب حتى يُغلّبوه على نفسه ويُجلسوه في بعض الطريق، فيجتمع عليه ألوف، أكثرهم ممن يكتب عنه، وكان شابًا لم يخرج وجهه.
رُويَ عن يوسف بن موسى المروروذي قال: كنت بالبصرة في جامعها، إذ سمعت مناديًا ينادي: يا أهل العلم، قد قدم محمد بن إسماعيل البخاري. فقاموا في طلبه، وكنت معهم، فرأينا رجلًا شابًا يصلّي خلف الأسطوانة، فلما فرغ من الصلاة أحدقوا به، وسألوه أن يعقد لهم مجلس الإملاء، فأجابهم. فلما كان الغد اجتمع قريبٌ من كذا كذا ألف، فجلس للإملاء، وقال: يا أهل البصرة، أنا شاب، وقد سألتموني أن أحدّثكم، وسأحدّثكم بأحاديث عن أهل بلدكم تستفيدون منها.
قال أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ: سمعت عدة مشايخ يحكون أن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد، فسمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا، وعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متن هذا لإسناد هذا، وإسناد هذا لمتن هذا، ودفعوا إلى كل واحدٍ عشرة أحاديث ليلقوها على البخاري في المجلس. فاجتمع الناس، وانتدب أحدهم، فسأل البخاري عن حديثٍ من عشرته، فقال: لا أعرفه، وسأله عن آخر، فقال: لا أعرفه، وكذلك حتى فرغ من عشرته فكان الفقهاء يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون الرجل فهم ومن كان لا يدري قضى على البخاري بالعجز ثم انتدب آخر ففعل كما فعل الأول والبخاري يقول لا أعرفه ثم الثالث وإلى تمام العشرة فلما علم أنهم قد فرغوا التفت إلى الأول منهم فقال أما حديثك الأول فكذا والثاني كذا والثالث كذا إلى العشرة فرد كل متن إلى إسناده وفعل بالآخرين مثل ذلك، فأقرّ له الناس بالحفظ، فكان ابن صاعد إذا ذكره يقول: الكبش النطّاح.
روي عن أبي الأزهر قال: كان بسمرقند أربعمائة ممن يطلبون الحديث، فاجتمعوا سبعة أيام، وأحبوا مغالطة البخاري، فأدخلوا إسناد الشام في إسناد العراق وإسناد اليمن في إسناد الحرمين فما تعلقوا منه بسقطة لا في الإسناد ولا في المتن.
وقال أحيد بن أبي جعفر والي بخارى: قال محمد بن إسماعيل يومًا: رُبّ حديثٍ سمعته بالبصرة كتبته بالشام ورب حديث سمعته بالشام كتبته بمصر فقلت له: يا أبا عبد الله، بكماله؟ قال: فسكت.
من كلمات البخاري
"لا أعلم شيئا يُحتاج إليه إلا وهو في الكتاب والسنة"
"ما جلست للحديث حتى عرفت الصحيح من السقيم وحتى نظرت في عامة كتب الرأي وحتى دخلت البصرة خمس مرات أو نحوها فما تركت بها حديثًا صحيحًا إلا كتبته إلا ما لم يظهر لي"
"ما أردت أن أتكلم بكلامٍ فيه ذكر الدنيا إلا بدأت بحمد الله والثناء عليه"
مصنفاته
تهيأت أسباب كثيرة لأن يكثر البخاري من التأليف؛ فقد منحه الله ذكاءً حادًّا، وذاكرة قوية، وصبرًا على العلم ومثابرة في تحصيله، ومعرفة واسعة بالحديث النبوي وأحوال رجاله من عدل وتجريح، وخبرة تامة بالأسانيد؛ صحيحها وفاسدها. أضف إلى ذلك أنه بدأ التأليف مبكرًا؛ فيذكر البخاري أنه بدأ التأليف وهو لا يزال يافع السن في الثامنة عشرة من عمره، وقد صنَّف البخاري ما يزيد عن عشرين مصنفًا، منها
الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله وسننه وأيامه، المعروف بـ الجامع الصحيح أو صحيح البخاري - حمل من المكتبة الوقفية
الأدب المفرد: وطُبع في الهند والأستانة والقاهرة طبعات متعددة - حمل من المكتبة الوقفية
التاريخ الكبير: وهو كتاب كبير في التراجم، رتب فيه أسماء رواة الحديث على حروف المعجم، وقد طبع في الهند سنة (1362هـ = 1943م).
التاريخ الصغير: وهو تاريخ مختصر للنبي (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه ومن جاء بعدهم من الرواة إلى سنة (256هـ = 870م)، وطبع الكتاب لأول مرة بالهند سنة (1325هـ = 1907م)
خلق أفعال العباد: وطبع بالهند سنة 1306هـ = 1888م حمل من المكتبة الوقفية
رفع اليدين في الصلاة: وطبع في الهند لأول مرة سنة (1256هـ = 1840م) مع ترجمة له بالأوردية - حمل من المكتبة الوقفية
الكُنى: وطبع بالهند سنة (1360هـ = 1941م
الضعفاء الصغير - حمل من المكتبة الوقفية
وله كتب مخطوطة لم تُطبع بعد، مثل: التاريخ الأوسط، قلت هو مطبوع في حلب باسم التاريخ الصغير والتفسير الكبير
صحيح البخاري
لدى ويكي مصدر نص أصلي يتعلق بهذا المقال: صحيح البخاري
هو أشهر كتب البخاري، بل هو أشهر كتب الحديث النبوي قاطبة. بذل فيه صاحبه جهدًا خارقًا، وانتقل في تأليفه وجمعه وترتيبه وتبويبه ستة عشر عامًا، هي مدة رحلته الشاقة في طلب الحديث. ويذكر البخاري السبب الذي جعله ينهض إلى هذا العمل، فيقول: كنت عند إسحاق ابن راهويه، فقال: لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فوقع ذلك في قلبي، فأخذت في جمع "الجامع الصحيح"
بلغ عدد أحاديث صحيح البخاري مع وجود المكررة منها 7593 حديثاً حسب إحصائية الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي، اختارها الإمام البخاري من بين ستمائة ألف حديث كانت تحت يديه؛ لأنه كان مدقِّقًا في قبول الرواية، واشترط شروطًا خاصة في رواية راوي الحديث، وهي أن يكون معاصرًا لمن يروي عنه، وأن يسمع الحديث منه، أي أنه اشترط الرؤية والسماع معًا، هذا إلى جانب الثقة والعدالة والضبط والإتقان والعلم والورع.
كان البخاري لا يضع حديثًا في كتابه إلا اغتسل قبل ذلك وصلى ركعتين، وابتدأ البخاري تأليف كتابه في المسجد الحرام والمسجد النبوي، ولم يتعجل إخراجه للناس بعد أن فرغ منه، ولكن عاود النظر فيه مرة بعد أخرى، وتعهده بالمراجعة والتنقيح؛ ولذلك صنفه ثلاث مرات حتى خرج على الصورة التي عليها الآن
قد استحسن شيوخ البخاري وأقرانه من المحدِّثين كتابه، بعد أن عرضه عليهم، وكان منهم جهابذة الحديث، مثل: أحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين؛ فشهدوا له بصحة ما فيه من الحديث، ثم تلقته الأمة بعدهم بالقبول باعتباره أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى. أقبل العلماء على كتاب الجامع الصحيح بالشرح والتعليق والدراسة، بل امتدت العناية به إلى العلماء من غير المسلمين؛ حيث دُرس وتُرجم، وكُتبت حوله عشرات الكتب.
محنة الإمام البخاري
كان البخاري شريف النفس فقد بعث إليه بعض السلاطين ليأتيه حتى يسمع أولاده عليه فأرسل إليه في بيته العلم والحلم يؤتى يعني إن كنتم تريدون ذلك فهلموا إلي وأبى أن يذهب إليهم والسلطان خالد بن أحمد الذهلي نائب الظاهرية ببخارى فبقى في نفس الأمير من ذلك فاتفق أن جاء كتاب من محمد بن يحيى الذهلي بأن البخاري يقول لفظه بالقرآن مخلوق وكان وقد وقع بين محمد بن يحيى الذهلي وبين البخاري في ذلك كلام وصنف البخاري في ذلك كتاب أفعال العباد فأراد أن يصرف الناس عن السماع من البخاري وقد كان الناس يعظمونه جدا وحين رجع إليهم نثروا على رأسه الذهب والفضة يوم دخل بخارى عائدا إلى أهله وكان له مجلس يجلس فيه للإملاء بجامعها فلم يقبلوا من الأمير فأمر عند ذلك بنفيه من تلك البلاد فخرج منها ودعا على خالد بن أحمد فلم يمض شهر حتى أمر ابن الظاهر بأن ينادى على خالد بن أحمد على أتان وزال ملكه وسجن في بغداد حتى مات ولم يبق أحد يساعده على ذلك إلا ابتلي ببلاء شديد فنزح البخاري من بلده إلى بلدة يقال لها خرتنك على فرسخين من سمرقند فنزل عند أقارب له بها وجعل يدعو الله أن يقبضه إليه حين رأى الفتن في الدين ولما جاء في الحديث (وإذا أردت بقوم فتنة فتوفنا إليك غير مفتونين)، ولقي الإمام ربه بعد هذه المحنة.
ثناء العلماء عليه
قال أبو العباس الدعولي كتب أهل بغداد إلى البخاري... المسلمون بخير ما حييت لهم... وليس بعدك خير حين تفتقد... وقال الفلاس كل حديث لا يعرفه البخاري فليس بحديث
قال أبو نعيم أحمد بن حماد هو فقيه هذه الأمة وكذا قال يعقوب بن إبراهيم الدورقي ومنهم من فضله في الفقه والحديث على الإمام أحمد بن حنبل واسحاق بن راهويه وقال قتيبة بن سعيد رحل إلي من شرق الأرض وغربها خلق فما رحل إلى مثل محمد بن إسماعيل البخاري.
وفاته
فكانت وفاته ليلة عيد الفطر سنة (256هـ) وكان ليلة السبت عند صلاة العشاء وصلي عليه يوم العيد بعد الظهر وكفن في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها قميص ولا عمامة وفق ما أوصى به وكان عمره يوم مات اثنين وستين سنة.